لا نجاح لأي برنامج تنموي بدون قضية مركزية، وفق مذكّرة لحزب “البديل الحضاري”، الذي يقول إنّ هذه “القضية المركزية” هي التي “ستعبّئ المغاربة حولها وتثير حماسهم، ولن تدفع فقط أطرنا إلى رفض مغادرة سفينة مجتمعهم اليوم، بل ستدفع “الدياسبورا” لكي تفكر في العودة إلى المغرب لتسخير علمها وخبرتها وإمكانياتها المادية”.
هذه المذكّرة التي يقدّمها الحزب في الذكرى الثانية عشرة لمنعه، في سياق يعرف استمرار استماع اللجنة التي كلّفها الملك محمد السادس بصياغة النّموذج التنموي الجديد الذي ستقدّمه إليه بحلول فصل الصّيف المقبل، تذكّر بأنّ قضية المغاربة إبان الحماية كانت هي تحقيق الاستقلال، وكانت بعد خروج الاستعمار “بناء دولة الاستقلال”، ثم تتساءل: فما هي قضية المغاربة اليوم والتي بها ستُسْتنهض الهمم وتتعبأ حولها طاقات ويتمحور حولها المشروع التنموي المغربي المنتظر؟.
وتؤكّد المذكّرة أنّ “المشروع التنموي المرتقب سيكون بالضرورة نتاج إعمال العقل الجماعي المغربي لإبداع حلول قابلة للتطبيق”، مضيفا أنّه “متى انفردت فئة أو طبقة ما بصياغته فلن يكون سوى انعكاس لمصالح تلك الطبقة أو الفئة”.
ويقول الحزب إنّ المغرب في حاجة إلى “مشروع مجتمعي واضح المعالم، يقوم على قيم التعاضد والتعاون والكدح الجماعي لتأكيد الذات الجماعية والمحافظة عليها وحمايتها من التوجهات الفردانية والأنانية والاستهلاكية..”، و”يمنح المكانة الأولى للحقوق الأساسية للمواطنين من تعليم وصحة وسكن وعمل ويضمن الحرية والحق في المساواة في الفرص وأمام القانون ويضمن الحقوق السياسية ويتبنى سياسات اجتماعية مبنية على قيم الإنصاف والاقتسام العادل للثروة، ويدعم الوحدة الوطنية في احترام تام للتنوع والتعدد والاختلاف المجالي والثقافي”.
ويرى البديل الحضاري أنّ “قضيتنا اليوم” هي “بناء مغرب قوي، مغرب النماء والتقدم والرفاه والحضارة”، ويزيد: هذه مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة، وتتطلب بناء إنسان مغربي معتز بانتمائه إلى الوطن وبجذوره الأمازيغية، العربية، المغاربية والإفريقية، وبناء إنسان مواطن وفيّ للقيم والمبادئ التي أسست للاجتماع المغربي، متشبع بالثقافة البانية ومشحون بالطاقة الإيجابية، يساهم في توطيد دعائم دولة المواطنة والكرامة والعدالة والديمقراطية، وبناء إنسان متحضر معتز بانتمائه للحضارة الإسلامية ومساهمٍ بفعالية في تنمية وتطوير الحضارة الإنسانية وتنمية الأرض وعدم الإفساد فيها وتدمير بيئتها”.
هذه القضية التي “تختزل كل رأس المال اللامادي الذي راكمناه تاريخيا”، تتلخّص حسَب مذكّرة الحزب في ثلاثة أبعاد، هي: “البعد الوطني الذي يستنهض الهمم لخدمة البلاد وشعبها، والبعد الحضاري الذي يعزز الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية والانتماء الإفريقي، والبعد الإنساني الذي يستهدف المشاركة الفعالة في تعزيز الانتماء إلى المشترك الإنساني”.
ومن بين ما ورد في المذكّرة تعبير حزب “البديل الحضاري” عن أنّه يريد “إصلاحا سياسيا على قاعدة المصالحة الوطنية الكبرى”؛ لأن “فشل الدولة القطرية في ضمان النهضة والتقدم وتوفير الديمقراطية والعدالة والكرامة والحرية والتقدم، قد يدخلها في دروب الصراعات الداخلية كما حدث في الكثير من دول العربية. وطبعا في أجواء الصراع بين الحاكمين والمحكومين يستطيع الاستعمار اختراق الأنظمة من جهة والتسرب داخل الشعوب مما يسهل عليه تنزيل وتفعيل مخططاته التفكيكية وزرع الفوضى الهدامة”.
وفي ظلّ “وضع معقد” تظلّ فيه “المؤامرات الاستعمارية قائمة”، يتطلّب إفشالها حسَب الحزب “قرارات شجاعة تعيد صياغة العلاقات بين الحكام والمحكومين على قاعدة مواطنة حقيقية، وتساعد على تجاوز حالة الصراع وإفشال مخططات التفكيك”؛ وهو ما لا بد لإنجازه من “المصالحة الوطنية التاريخية بين متخلف فرقاء المشهد السياسي، ومع المناطق والجهات المهمشة”.
ويدعو حزب “البديل الحضاري” إلى “المصالحة مع ذاكرتنا الوطنية وتاريخنا المجيد” عبر القيام بـ”مصالحة على قاعدة إصلاحات سياسية من أجل إقرار ديمقراطية حقيقية بما تعنيه من فصل للسلط، وجعل للقضاء أعلى سلطة باستِقلاله ونزاهته، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس القبول بالتعدد والتنوع في إطار وحدة الشعب والأرض”.
هذه المصالحة، وفق المذكّرة ذاتها، “تبتدئ بإطلاق كافة المعتقلين على خلفية سياسية واحترام حقوق الإنسان والتصدي للفساد والمفسدين”، دون أن تجد في “التفاعل مع مطلب الديمقراطية” تعارضا مع “التصدي للمؤامرات الخارجية”.
وتذكر مذكّرة “البديل الحضاري” أنّ المغرب قد يكون في المرحلة المقبلة في حاجة إلى تفعيل العديد من أشكال الديمقراطية في آن واحد، هي: الديمقراطية التمثيلية في الهيئات التشريعية بالبرلمان بغرفتيه، والديمقراطية التشاركية عند تشكيل الحكومة ومجالس المدن والجهات، والديمقراطية المباشرة، عوض الديمقراطية المفوضة، محليا في القرى والبوادي والمداشر حيث يشارك المواطنون، من منتخبين ومجتمع مدني وفعاليات ثقافية وفكرية محلية وشخصيات لها مكانة اعتبارية في التفكير في مشاريع، وبلورة تصورات، وطرح بدائل…. كما يمكنهم لعب دور المراقب للأوراش التي تخطط لها وتنفذها السلطات الإقليمية والجهوية والمركزية في منطقتهم.
وتأسّف الحزب من استمرار النقاش بعد أزيد من ستين سنة حول “لغة التدريس وتحديد أهداف بئيسة مثل الرفع من مستوى الولوج إلى المدرسة لتخفيض نسبة الأميين المرتفعة ورفع عدد المتمدرسين كي يتحسن ترتيب بلادنا في مؤشر التنمية العالمي”، وربط إصلاح المنظومة التربوية بتأهيل التعليم العمومي ليكون قاطرة للعملية التنموية، مضيفا أنّ “أكبر مصيبة أصابت تعليمنا هي تشجيع التعليم الخصوصي على حساب التعليم العمومي”.
وبعد استرسال حول الدور الأوّل للتعليم العالي اليوم المتمثّل في “المساهمة في التقدم العلمي والتكنولوجي للبلاد باعتبارهما أساس التقدم والازدهار”، والدياسبورا المغربية عالية الكفاءة العلمية التي يمكن الاستفادة من تجاربها بتوفير الوسائل والظروف لها، تحدّثت مذكّرة حزب “البديل الحضاري” عن وجوب “فرض ضريبة للتعليم والبحث على أصحاب الثروات، وإعادة النظر في بعض المؤسسات التربوية الموجودة في قلب المدن الكبرى التي لا تستعمل عبر تحويلها لمشاريع وقفية على التعليم، وتحسيس المواطنين الذين يفكرون في المشاريع الوقفية بأن بناء مدرسة وتمويل البحث العلمي في جامعة أهم عند الله من بناء مسجد في هذه اللحظة التاريخية على الأقل، وإقناع المغاربة الذين يؤدون الزكاة بأن يعطوها في هذا الاتجاه”.
وتطرّقت المذكّرة لإشكالات من قبيل “أزمة الخصاص في الماء”، الذي اقترحت جوابا لها إيلاء “أهمية أكبر لتحلية ماء البحر، خصوصا في المناطق المغربية التي لا تسمح بنيتها الجيولوجية بتخزينه… باستعمال الطاقة النووية…”. كما تطرّقت للأمن الصحي الذي لا مستقبل من دون “تعميق البحث العلمي فيه والتخصص في مجالاته”، والحاجة إلى أن يكون هدف “برنامج أولوياتنا للمرحلة المقبلة… تحقيق الاكتفاء الذاتي خصوصا في المجالات الحيوية”، الذي لن يكون اعتماده بالأمر الهين، ويتطلب قرارا سياسيا شجاعا تتبعه تضحيات مؤلمة أحيانا، وإعادة النظر في اختياراتنا الكبرى، وإعادة ترتيب أولوياتنا الوطنية في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية”.
وتسجّل المذكّرة أن “عدم إنجاز إصلاح شامل لمنظومة العدالة بما يضمن نزاهة القضاء واستقلاله سيبقى معيقا حقيقيا للتنمية”؛ لأن “فقدان الثقة في المؤسسة القضائية سيدفع المستثمرين المغاربة كما الأجانب إلى التفكير ألف مرة قبل الاستثمار في بلد لا يرتاحون فيه إلى مؤسسة من المفروض فيها أن تكون ملجأهم عندما يكونون أمام مشاكل تعيق عملهم”.
وتشدّد مذكّرة “البديل الحضاري” أنّ “الفساد معيق حقيقي لأي مشروع تنموي في بلادنا”، وزادت: إذا أضيفت إليه عدم الكفاءة، ورداءة النخب، والبيروقراطية الإدارية القاتلة، نكون أمام حزمة من المعيقات التي تمنع الإقلاع والانطلاق”، وبالتالي فـ”دون تخليق حياتنا السياسية والاقتصادية، ودون هزم الفساد، لن نمضي بعيدا في إصلاح أمورنا”، وهو ما له “متطلبات ودفتر تحملات وفاتورة، ولكن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
كما تذكر مذكّرة حزب البديل الحضاري الممنوع منذ سنة 2007 أنّ “أي مشروع مجتمعي يرمي إلى النهوض بالبلاد لا بد أن يكون من مفردات عناوينه تحرير الاقتصاد المغربي من الخضوع الكلي للجهات الدائنة”، مضيفا أنّ “البداية يجب أن تكون بإعادة النظر في كل اتفاقيات التبادل الحر التي وقعها المغرب مع العديد من الدول لكي تصبح أكثر توازنا وضمانا لمصالح بلادنا، وأن ينوع مروحة معاملاته التجارية بالولوج إلى أسواق جديدة كدول الآسيان والصين الشعبية ودول الأوراسيا الكبرى وأمريكا الجنوبية”، ويبحث عن تدعيم العلاقات المغربية – المغاربية والمغربية – العربية ، والمغربية – الإسلامية، والمغربية – الإفريقية، وأن يكون التعاون جنوب – جنوب من أولوياته”.
كما تدعو المذكّرة إلى إعادة الاعتبار إلى “منظومة قيمنا الحضارية التي تضررت كثيرا بالعولمة وقيمها النيوليبرالية، مما أدى إلى غياب المعنى على مستويات شتى: سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا، اقتصاديا ولدى الكثير من المواطنين وخصوصا لدى المهمشين؛ وهو ما يعني أنّه “لا بد من بناء مجتمع التضامن والتكافل والإيثار وحب الخير للناس عوض مجتمع الاحتكار والجشع والأنانية”.
هذا المقصد يحتاج، وفق المذكرة، من منطلق الواجب الديني والوطني استدعاء القيم ومكارم الأخلاق المستمدة من تعاليم ديننا السمح، وأعراف راكمها مجتمعنا خلال مسيرته الإنسانية (…) قبل دخول الإسلام إلى المغرب واعتبرها الإسلام من مكارم الأخلاق التي جاء ليغنيها ويتممها، من قبيل: “التويزة” التي هي شكل من أشكال التضامن، و”الأحباس” التي هي شكل من أشكال التكافل، وإخراج الزكاة التي هي شكل من أشكال التعاضد، وكفالة الأيتام التي فيها تجسيد لتماسك لحمة المجتمع، وشق الطرقات وقنوات الري وبناء المدارس وإحياء الأرض الموات وحفر الآبار، التي كانت كلها أعمالا قام بها المجتمع لتعزيز لحمته وتوطيد دعائم تماسكه ولم ينتظر فيها الدولة.