الدين الإسلامي والسياسة

0

الكل يتكلم اليوم عن الإصلاح بالعالمين العربي والمغاربي، بدون أن يتم تحديد الطبيعة الحقيقية بالدقة المطلوبة لهذا الإصلاح، ووقعه الملموس (المحسوب بنسبة تحقق معلنة رسميا) على تحسين الجانب المادي في حياة شعوب المنطقة لا كما ولا كيفا، لتبقى البرامج السياسية المعلنة من استحقاقات انتحابية إلى أخرى حبرا على ورق، أي مجرد شعارات حماسية، ساهمت مع مرور الوقت إلى تبخيس العمل السياسي وفقدان الثقة فيه.

موازاة مع هذا المعطى، يبقى التحلي والالتزام بالموضوعية في الكتابة والتحليل، لاعتبارات مختلفة ومتنوعة، صعب المنال، خصوصا عندما يتطلب الأمر، بضغط من الأوضاع الحساسة الحالية، ضرورة تقبل كل ما يميز المراحل الأولى من الانتقالات الديمقراطية من الخطابات المتعلقة بالخصوصيات القطرية والتعبير عن الإرادات السياسية في الإصلاح، وإعلان الإيجابية النقدية في التعامل معها. يفرض هذا التقبل على المتتبعين، في سياق المسايرة والأمل في التغيير في إطار الاستقرار، بالرغم من ضعف الحصائل المرتبطة بالبرامج السياسية للأحزاب سواء تلك المشاركة في الحكومة أو في المعارضة. في نفس الوقت، أمام أهمية الكتابة في المواضيع الوطنية والدولية، سواء بدافع المهنية أو لاعتبارات مرتبطة بالروح الوطنية، يبقى من الصعب الالتزام بخط تحريري واضح المعالم موازاة مع الاستمرار في إضفاء الغموض، لآماد طويلة، على منطق الأجندات الوطنية وتفاعلاتها الدولية. من المفروض الاحتكام إلى العقل، بعيدا عن كل أنواع الإكراه والابتزاز والمزايدات، من أجل ترسيخ قيم وقواعد اللعبة السياسية. فالقيمة الحقيقية للعمل السياسي لا يمكن أن تتجسد وتكبر ما لم يتم ربط البرامج والخطابات الحزبية بالواقع المادي للسياسة، خصوصا توضيح العلاقة (ثلاثية الأطراف) ما بين السياسة والدين الإسلامي بشقيه الرسمي و"الحركاتي".

إن القيم الإسلامية من أخلاق ومعاملات وعبادات … هي في واقع الأمر ركن أساسي من أركان هوية شعوب المنطقة (ملك جماعي)، وبذلك يبقى استغلالها فئويا من هذا الطرف أو ذاك أمر يصعب استساغته في مرحلة الانتقالات الديمقراطية. فلا يمكن الركوب عليها من أجل الرفع من التأثير العاطفي على الرأي العام و"الاستيلاء" على الحصة الكبيرة من أصوات الناخبين (الفعل الحزبي يرتكز على توسيع قاعدة فاعليه وعاطفيه ومتعاطفيه وليس قاعدة زبنائه). وهنا لا يمكن لأحد أن يجادل كون الله، سبحانه وتعالى، قد جعل من العلم والعمل عماد الدين. إنها الحقيقة التي يجب أن تكون سلاحا ذو حدين لإبادة أفكار رواد التقليد القاتل الذين يستغلون كل المنابر المتاحة لترويج الأفكار التي تدفع الناس إلى الاعتقاد، بدون وعي طبعا، كون الجهل والفقر والمرض والفوارق الاجتماعية هي ظواهر مقدرة عليهم، ولا يملكون إلا التطبع معها.

إن الوضع المادي للعباد ليس مرتبطا بالسماء كما يتم الترويج لذلك، بل بالعمل والعلم بعد التوكل على الله. فعلا بعد القيام بالواجب باستمرار وبدون تواكل على أحد، لا بد أن يطلب المرء العون من ربه من باب كون الأرزاق بيده، يوتيها لمن يشاء، أي لمن أحسن صنعا والتزم بشروط كينونته. فالوقوف السياسي عند "ويل للمصلين" في الخطاب الديني تحت ذريعة خلق شروط استثبات الأمن الروحي وضمان الاستقرار، بدون الحديث عن الأهمية الدينية للعمل والعلم والمثابرة والاجتهاد، هو في حقيقة

الأمر إيديولوجية اللوبي المستفيد لا أكثر ولا أقل، إيديولوجية بدون سند لا وضعي ولا سماوي. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن هناك من لا يرى مانعا في استعمال هذا الخطاب لربح الوقت، ولتجميع القوى للانطلاق بسرعة في مسار التنمية. في نفس هذه النقطة بالذات، لا يتفق الكثير من المحللين الموالين، من باب الخوف على ممتلكاتهم، على أن يشكل هذا السلوك أرضية سياسية قارة ينتهجها المتفوقون ماديا ومعنويا للحفاظ على مواقعهم والرفع من مستوى تراكم ثروتهم المادية، بل أكثر من ذلك، يعتبرون هذا الأمر ضرب من ضروب العشوائية في السياسة والثقافة.

إن الدفاع عن الإصلاح، من خلال جعل العقيدة الدينية الأساس الإيديولوجي الذي يتم الاعتماد عليه لبناء الخطاب السياسي، قد يحمل في مضمونه وشكله مخاطر ومشاكل جمة، وقد يترتب عنه، لا محالة، بحكم الواقع الثقافي السائد، تأثيرات مناوئة لإرادة الإصلاح المعلنة. إن المبالغة في الاقتصار على الخطاب الديني في اللعبة السياسية، وتحويله إلى دعامة أساسية لتقوية التيارات الإسلامية المتدافعة، سيتوج بدون شك بترسيخ نوع من الانطباع عند العامة مفاده كون بعث الرسائل الدينية من جانب واحد من خلال المنابر الكثيرة والمختلفة والمتنوعة، وبدون مناقشة، هو الأكثر وقعا على الشرعية السياسية، وأقصر سبيل للوصول إلى الحكم، والاستمرار في احتكاره لأكبر مدة ممكنة. بالطبع، أستحضر في هذا المقام هذا المعطى بدون أن أفتح قوس موضوع المنافسة في هذا المجال (أي في السياسة والدين والاقتصاد) بين الأنظمة السياسية الأصلية والتيارات الإسلامية المتدافعة، لأن ذلك يتطلب مقالا خاصا به.

على أي، لا يمكن لاثنان أن يختلفا كون دول ومجتمعات اليوم واعون بالتحديات والإكراهات والرهانات الجديدة التي تميز وستميز الأوضاع في الحاضر والمستقبل. فهناك شبه إجماع كون الحيوات (جمع حياة) السياسة في منطقتنا، وفي العالم، تعرف تراجعا مستمرا للتيارات اليسارية والقومية، في مقابل تسجيل صعود مثير للتيارات الإسلامية عربيا ومغاربيا، والتيارات الراديكالية والمتطرفة غربيا.

فعلا، إنها إشكالية معقدة جدا. وقد ازدادت تعقيدا مع مرور الوقت منذ أن أصبح الإسلام المنفتح والمسالم والمتسامح من الاهتمامات الإستراتيجية الأساسية في السياسة الغربية بشقيها الأمريكي والأوروبي. لقد تطور الإعجاب بسرعة بعدما تم اعتراف المجتمع الفاتيكاني في أكتوبر 1962 برسالة القرآن التوحيدية. إنه الإعجاب الذي لم يوازيه على أرض الواقع أي مجهود لتوضيح قواعد اللعب في الحياة الحزبية من أجل تحقيق عقلنة التداخل ما بين المادة والروح في السياسة. لقد سيطر الخطاب الروحي المؤجل للحياة المادية إلى الآخرة، وعمت الأساطير والشعوذة والبدع إلى درجة ضاقت هوامش الفعل الرافعة لشعار العقلنة والاجتهاد. لقد ساد الغموض والمغالطات، وساهم ذلك في خلط الأوراق السياسية في منطقتنا. واحتدت شدة الغموض، في هذا الموضوع بالذات، عندما ازداد إعجاب المثقفون الغربيون بالثورة الإيرانية. فعلا، لقد تباهى المثقفون الغربيون بالثورة الخمينية وعلى رأسهم ميشيل فوكو. لقد كان هذا الإعجاب، أي التأييد، الذي تم التعبير عنه علنا من طرف هذا المفكر الهرم، بمثابة انتقاد صريح للتوجه المادي الغالب والمسيطر في المنطقة في تلك الفترات. إنه في نفس الوقت بمثابة دعوة إلى ترسيخ فكرة كون الإنسان مادة وروح، وأن الأهم في الحياة بالنسبة للإنسان هو خلق التوازن بينهما. لقد كانت عبارة فوكو مدوية في عالم السياسة كونيا، حيث أكد بلا تردد واصفا الثورة الإيرانية كونها: "محاولة لفتح ثغرة روحانية في جدار السياسة".

لقد استمر التأييد غربيا إلى أن أصبح العالم يعيش الإرهاب باسم الإسلام وساد الخوف جراء ظهور عدة ظواهر جديدة كالرهائن والاغتيالات والعنف العقائدي بنوعيه اللفظي والدموي، وإحياء النزعات

العنصرية اتجاه المهاجرين والأجانب…. لقد برز مقابل خطاب تصالح الديانات والحضارات والتسامح وسلمية العلاقات والانفتاح، دعوات هنا وهناك، وبشكل منظم، إلى الجهاد المقدس (تحت شعار مواجهة المدنس)… وتراجعت بشكل واضح الشرعية الشعبية للأحزاب الاشتراكية والقومية في المنطقة، وأصبحت تعيش شعوبها أوضاعا جديدة مهددة للتراكمات والمكتسبات الحقوقية والديمقراطية التي تم تحقيقها…. لقد طفح على السطح في هذا السياق الجديد الصراع الإقليمي السني/الشيعي المرتبط بأجندات سياسية دولية… وسقطت أنظمة باختلاق أسباب مدعمة للمصالح الجيوستراتيجية الكونية للدول العظمى … وعادت نبوءة آية الله التي صرح بها سنة 1997 إلى الواجهة حيث جاء فيها: "ستكون الحرب القادمة بين المسلمين والمسيحيين".

قد يعجبك ايضا

اترك رد