يقضي على الشعور بالوحدة ويقي من الإصابة بالزهايمر.. هذا ما لا تعرفيه عن الطبخ

0

يوم الجمعة الماضي، كنت واقفة أمام طاولة المطبخ أتذمَّر من دجاجة…

كان وعاء الزيت ساخناً وجاهزاً على الموقد، كما كانت جميع الخضراوات مقطَّعة بعناية على شكل شرائح رفيعة وموضوعة في أوعية منفصلة، في انتظار أن تؤدي دورها.

غير أنَّه كان يتوجب عليَّ في البداية أن أقطع الدجاجة إلى 8 قطع. لم أكن قد لاحظت هذا عندما اخترت وصفة العشاء الفرنسية «السهلة» هذه، لكنَّها كانت موجودة فعلاً في قائمة المكونات: «دجاجة كاملة، تزن حوالي 4 أرطال (ما يُقارب 1.8 كيلوغرام)، مقطَّعة إلى 8 أجزاء. لم ترد أية تعليمات عن كيفية تقطيع الدجاجة. فقمت بتدوير الدجاجة على لوح التقطيع، ومن ثم قلبتها، وقرَّرت أن أبدأ بتقطيع الأجنحة. لكن مهلاً، ربما أبدأ بالأرجل. لكن ماذا لو فشلت في إيجاد المفصل؟ وماذا لو أنني مزَّقت الكثير من الجلد، ما يعني أنَّ الطبخة بأكملها ستفسد، وأنني قطعت كلَّ شرائح الخضراوات الرفيعة تلك من أجل لا شيء؟

قال الطباخ أنتوني بورداين: «إنَّها مجرد دجاجة يا بليدة، ليست عملية قلب مفتوح، بل وجبة عشاء! كفّي عن العبث واقطعي الدجاجة».

«لكنني لم أفعل…»

«قطِّعيها قبل أن نصير عجائز رجاءً. وطوى ذراعيه المسمرَّتين بفعل الشمس، ثم اتكأ على طاولة المطبخ، وانتظر.

فنفضت يديَّ في الهواء وعدت إلى لوح التقطيع. قطَّعت الدجاجة ووضعتها في الزيت الساخن. وبعد ساعة من ذلك، فاحت رائحة الزبدة والفلفل في أنحاء المطبخ، واغترفت قطعة دجاج غير مقطعة بشكل أنيق لكنَّها مليئة بالعصارة، مع ملعقة كبيرة من الطماطم والبصل. إنَّها طبخة دجاج باسكايز Poulet basquaise الفرنسية: عشاءٌ ممتاز يناسب ليلة صيفية مبكرة.

قال بورداين «سيفي هذا بالغرض»، مشيراً إلى القدر. وأردت أن أعتذر إليه بسبب الدراما التي قمت بها قبل قليل، لكنَّه كان قد توجَّه إلى طاولة الطعام بالفعل، وقال: «والآن اجلبي لنا بعض النبيذ».

وبالطبع، كلّ هذه الأشياء ليست حقيقية، فأنا لم أقابل أنتوني بورداين قط. وصحيح أنني طبخت دجاج باسكايز، لكنني كنت في المنزل، وحضرتها وحدي في مطبخي. كنت قد وجدت الوصفة ظهيرة هذا اليوم في كتاب أنتوني بورداين للطبخ Anthony Bourdain’s Les Halles Cookbook. ومثل ملايين الأشخاص الآخرين -مثل جميع من أعرفهم على ما يبدو- أمضيت وقتي ذلك اليوم في إعادة مشاهدة وقراءة طبخات بورداين. وقد صار حسابي على الإنستغرام مليئاً باقتباسات لبورداين من كتابه Kitchen Confidential ومقاله المنشور في صحيفة نيويوركر عام 1999، والذي شكَّل انطلاقة بورداين ككاتبٍ ورحّالة وأيقونة أميركية سليطة اللسان. كان اليوم الذي طبخت فيه هو 8 يونيو/حزيران 2018، اليوم الذي توفي فيه أنتوني بورداين عن عمر يناهز الـ61 عاماً.

إنَّ الفقد لَأمرٌ غريبٌ، ويصبح الأمر أغرب عندما يتعلَّق الأمر بوفاة أشخاص مشهورين. لم أفهم في البداية لماذا كان هذا الموت تحديداً مؤلماً جداً، أو لماذا بحثت عن عزاءٍ في كتاب الطبخ القديم هذا، عوضاً عن إحدى مقالات بورداين. وأرسلت رسالة نصية لزوجي كتبت فيها: أشعر بأني سخيفة، لكنني لا أنفكّ عن التفكير بخبر موت بورداين. وأريد أن أحضر إحدى وصفاته على العشاء. هل أنت موافق على أن يكون طبق عشائنا طبخة دجاج فرنسية؟ وردَّ زوجي على رسالتي سريعاً: وأنا كذلك! وأجل يروقني طبق الدجاج الفرنسي هذا.

اخترت طبق دجاج باسكايز بعد قراءة سريعة، لأنَّه بدا لي طبقاً سهل الإعداد (بصرف النظر عن الجزء الذي اضطررت فيه إلى تقطيع الدجاجة، فهذا ليس مهماً). لكنني أنفقت ساعة إضافية على الأقل وأنا أطالع الصفحات، وأقرأ تعليمات بورداين وبعض الملاحظات الجانبية القصيرة، كان بورداين قد كتب ملاحظات جانبية مع وصفة Chartreuse of Quail تقول: «احتفظ بما تبقى من السمان من أجل الصلصة، وإذا أردت أن تبدو فناناً متألقاً، فاحتفظ بأفخاذ السمان أيضاً». وفي هذه التعليمات كتب أيضاً: «إذا كنت منزعجاً من استخدام وعاء سيراميكي لأي سبب من الأسباب، فبإمكانك استبداله بكوب حساء ذي زجاج سميك. هل فهمتهم؟ Capisce؟ (هل فهمتهم بالإيطالية)». تنتهي الوصفة بتربيتة على الظهر، وبثناء غير مصحوب بالابتسامات يمكن أن يكون أو لا يكون تهكماً «تهانينا، لقد أتممت لتِّوك تحضير طبق فاخر».

إنَّ كتابة الوصفات أمرٌ شديد المباشرة والوضوح بالضرورة. فأنت لا تحتاج الكثير من الوصف لتشرح طريقة عمل البطاطس المخبوزة، كما أنَّك لا تريد إرباك القارئ، أو جعل الأمور أكثر تعقيداً عما هي عليه باستخدامك للغة منمَّقة. تحتاج كتابة الوصفة للوضوح، لا الصوت. ومع ذلك، ينبثق ذاك الصوت ويتردد دائماً. يعرف الطهاة من أمثال بورداين أنَّ كتاب الطبخ أكثر من مجرِّد كتيِّب مليء بالتعليمات. ومن أجل أن تُعدَّ طبقاً ما بشكل صحيح، يجب أن تتعلَّم ذلك، لذا يقومون بالتعليم. يصنعون من أنفسهم حروفاً ويصفونها داخل الكاتب، ومع كلِّ مرة تفتح فيها الكتاب، تجدهم هناك. وكالعادة، كل معلِّم يختلف عن الآخر.

مارسيلا هازان على سبيل المثال صارمة ولا ترحم. وقبل أن يصبح لها وزن كبير في المطبخ الإيطالي، كانت هازان في طريقها لتصبح عالمة. فقد حصلت على درجة الدكتوراه في البيولوجيا والعلوم الطبيعية، ونقلت هذه الدقة المرهقة والجادة إلى كتب الطبخ التي كتبتها. إذ غالباً ما تنتهي جميع وصفاتها بأمر صارم «تُقدَّم ساخنة». ويشمل ذلك مقادير دقيقة مُرهِقة، مثل ربع ملعقة من الثوم (وبالطبع يجب ألا تستخدم هراسة الثوم!). وتتطلَّب وصفة عصيدة الذرة الخاصة بها، إضافة دقيق الذرة على شكل «خيط مستمر رفيع جداً، عن طريق السماح لحفنة من الدقيق بالتدفق من بين أصابع شبه مغلقة. كما يجب أن تكون قادراً على رؤية ذرَّات طحين الذرة وهي تتساقط في الوعاء».

ويتوجب عليك بطريقة ما أن تبقي عينك على ذرّات الطحين متناهية الصغر، وفي الوقت نفسه يجب «أن تتأكد من أنَّ الماء مستمر في الغليان». «أوه» ويجب عليك أن تُنبت ذراعاً ثالثة من أجل التحريك في الوقت نفسه. وهذه مجرد خطوة واحدة من خطوات الوصفة بالمناسبة! أما الخطوة الثانية فهي الوقوف إلى جانب الموقد، والتقليب باستمرارٍ حتى تبدأ عصيدة الذرة «في تشكيل كتلة متماسكة»، الأمر الذي يحتاج من 40 إلى 45 دقيقة. هل أنت بحاجة إلى وقتٍ مستقطعٍ للذهاب إلى الحمام؟ هذا سيئ جداً.

وفي المقابل، لا تهتم جوليا تشايلد بالوقت على الإطلاق. أو على الأقل ليس مثل اهتمام هازان به. فهي تنتهي عندما تصير الطبخة جاهزة- عندما ينبعث من الصلصة بخار زكي، أو عندما تنتفخ الحلويات التي على شكل أصدافٍ في الفرن بفعل السحر. تشايلد بالنسبة إلى كتب الطبخ بمثابة مُعلمة الفن الشغوفة، إذ ينبثق سرورها من كلِّ صفحة في كتابها «إتقان فنِّ الطبخ الفرنسي Mastering the Art of French Cooking».

على سبيل المثال هناك طبق العجة الفرنسية الكلاسيكي «أومليت سلس ذهبي اللون بيضاوي الشكل، طري وذو قوام كريمي من الداخل». وكما تقول، فإنَّ أصعب جزء من الوصفة هو التصديق بأنَّه باستطاعتك تحضيرها. عليك أن تُمسك بمقبض المقلاة بكلتا يديك، وأن تميل المقلاة على الموقد، ومن ثم تهزَّها بقوة. وتوصي تشايلد بأنَّه «عليك أن تتحلى بالشجاعة لتتعامل مع المقلاة بعنف، وإلا سيبقى البيض ملتصقاً في قعر المقلاة. لذا لا تتردد، كن شجاعاً. وإذا لم ينجح الأمر، فلا بأس «حسناً، كوِّن الشكل بنفسك عن طريق دفعها باستخدام ظهر شوكة».

هذا ما أحبه في الوصفات: فالكتابة إرشادية في الواقع، لكنَّها مليئة بالعواطف رغم ذلك. يتحدَّث الطاهي إليك مباشرة ويوجِّهك ويؤنبك ويدعمك في كلِّ خطوة طوال الوصفة. عندما أتبع وصفات هازان، أقف بظهر مستقيم، وأشعر بعينها الثاقبتين تراقبان يدي بينما أسوي وجه الثوم في أصغر ملعقة قياس لدي. في حين أحتفظ بوصفة جوليا تشايلد لحساء لحم البقر بالبورغيغون لأكثر الليالي برداً، من شهر فبراير/شباط، عندما أكون بحاجة إلى أن أقضي يوماً بجانب الموقد، أحضر شيئاً باعثاً على الدفء والسعادة. وباستطاعتي أن أسمع قهقهاتها حين يُطلق ارتطام لحم الحساء بالزيت صوت فرقعة. وأسمعها وهي تصيح «ها قد انتهينا! تعرفين عزيزتي، سيكون طعم هذا الطبق أشهى في الغد!»

تُمثل كتب الطبخ راحة استثنائية في الأيام السيئة، أو في أوقات الحزن والفقد. ليس السبب في أنَّها تُساعد على إعداد طعام يكون بمثابة عزاء ومواساة -على الرغم من أنَّ هناك شفاءً يكمن في هذا، بالطبع- ولكن بسبب أولئك الذين ينبثقون إلى الحياة بفعلها. أعتقد أنَّه لهذا السبب لم أرجع إلى مقالات بورداين الشهيرة، ولكن إلى كتاب الطبخ القديم هذا. وأنا لا أقصد بقولي أن أقلِّل من شأن أعماله الأخرى -فالرجل لم يكتب جملة واحدة مملة في حياته -على حد علمي- لكنَّ هذه الوصفات مختلفة. إذ يظهر بورداين في هذه الوصفة بأكثر الصور بهجة ومرحاً. وتشعر براحة وإثارة عندما يخبرك بأن تشغل بعض الموسيقى وتغسل الفاصولياء، ومن ثم يقترح عليك أن تزيل القدر عن النار قبل أن تضيف الكونياك، «إلا إذا كنت ترغب في أن تشتعل النيران في شعرك»!

يصرخ فيك ويحفِّزك، ويُخبرك بألا تكون طفلاً، ويؤكد أنَّه باستطاعتك القيام بالأمر. هل أفسدت صلصة الزبدة؟ من الذي لم يفعل ذلك من قبل؟ كتب بورداين في المقدمة: «سأخبرك بما أقوله لكل مبتدئ في مطبخي، ارمِها، وابدأ من جديد. هل فهمت الأمر الخاطئ الذي قمت به في المرة السابقة؟ جيد. لا تفعله مجدداً». ويستمر قائلاً إنَّ الإخفاقات جيدة «إن الإخفاقات -والنهوض الذي يليها- يساعدك في التغلب على الخوف».

يخبرك بورداين بأن تتوقَّف عن أن محاولاتك لتكون عبقرياً، وأن تستمرَّ في المحاولة. لست بحاجة إلى العبقرية حتى تصير طباخاً جيداً (وهو الأمر الرائع، لأنَّك لست كذلك، يا مبتدئ). ويقول: «أنت تحتاج إلى الإرادة، تحتاج إلى الرغبة. وتحتاج إلى العزيمة لتستمر، حتى بعد أن تشيط أول دفعة تعدها من الحساء، وتحرق الصلصة، وتقطع فيليه السمك بطريقة خاطئة، بل وحتى بعد أن تجرح إصبعك».

وقبل كل شيء، يعتقد بورداين بأنَّك «تحتاج إلى الحب». فأنت بحاجة إلى أن تحب عملية الطبخ، والأدوات، وبالطبع الأشخاص الذين تطبخ لأجلهم، «لأنَّ أحلى الوجبات وأكثر الوجبات التي تعلق في الذهن، تتعلق بمن تناولت طعامك برفقته، لا ما الذي أكلته. «وإذا لم تحب ذلك، فلماذا تطبخ»؟

وفكّرت في كم كانت لحظة وقوفي وحيدة في المطبخ لحظة مليئة بالعواطف. كان هواء الغرفة حاراً وثقيلاً تنتشر فيه رائحة الفلفل الحلو والحار. نظرت نحو طاولة الطعام، حيث يجلس صديقي الخيالي وهو يشرب النبيذ من كأس تتراكم على سطحها قطرات الندى الباردة. أومأ برأسه، ثم رفع كتفيه قائلاً: «هل راودتك فكرة أفضل»؟

هذا الموضوع مترجم عن مدونة A Cup of Jo الأميركية.

المقالة يقضي على الشعور بالوحدة ويقي من الإصابة بالزهايمر.. هذا ما لا تعرفيه عن الطبخ ظهرت أولا في عربي بوست — ArabicPost.net.

قد يعجبك ايضا

اترك رد